ربما كان لجهل الانسان وتساؤله عن فحوى الوجود، ومعنى الموت دون إجابة مؤكدة ومرئية ومثبتة بالبراهين التي تستشعرها الحواس الخمس، كان السبب الاول للشعور بخطيئة وجوده نفسه، وهو يرى الموت يفتك بغيره لينتهي اليه.
عبر التأريخ الطويل صنع الحّكام الهتهم، وجسّدوها على هيئة منحوتات، وأطروها بالاساطير ثم امروا فقراءهم ان اعبدوها، وذبحوا لها الاضاحي وعمدوا الى إراقة دماء البشر إلهاء لهم عن جبروت يحكمون به الناس ويتظاهرون بورعهم من خلاله تقربا لرب لا يراه احد سواهم.
لا يمكن لكتاب تأريخ ان يحيط بالميراث الديني للبشرية كلها، فهو مختلط ومتناقل عبر العصور الى درجة يستعصي عندها فصل هذا عن ذاك جغرافيا وزمنيا.
بشكل عام لا يخلو معتقد ديني وثني او وضعي او سماوي من طقوس يمارس عبرها الإنسان جلد ذاته نفسيا وجسديا.
سنتحدث عن اغرب عقوبات اوقعها الكائن البشري بنفسه وصولا للخالق ورضاه عنه:
تعد جمعية (سكويتي) او خصيان روسيا من اكثر جماعات التعذيب الجسدي تطرفا، وتمارس الجمعية غير المعلنة خصي المنتمين اليها كطقس ديني، وقد وصف علماء النفس بأن الحركة كانت تلبي حاجات نفسية ملحة، في حين اعتبرها الكثير ضربا من الجنون، وقد انتشرت في القوقاز وامتدت حتى هنغاريا، ولم تختف الا بعد قرون من حيث بدأت إقامة شعائرها.
و على الرغم من إضفاء مسحة مسيحية على نشاط الـ (سكويتي)، فانها على الاغلب قد استوحت تعاليمها من افكار تناقلت عبر العصور تعود لأديان غابرة قديمة.
كان الرهبان والكهنة يعتقدون ان الاتصال الروحي بالرب يقتضي التفرغ والتخلص من الشهوات والغرائز، وتعذيب الجسد بقطع الاعضاء التناسلية، وهذا غريب لان مكامن الرغبة تظل عالقة في الغدد التي تفرز هرموناتها عبر الدم، وما الاعضاء الا اداة توصيل واتصال لا شأن لها بنشوء الرغبة.
واعتمدت بعض جماعات تنتسب لذات المبدأ كبح الحاجة الجنسية وتحويلها نحو قنوات النشوة الالهية، والبعض كانوا يجلدون انفسهم تقربا لله، ولم تعترف الحكومة الروسية بتلك الممارسات الا في عام 1771 على الرغم من ان نشوء الجمعية كان في عام 1757.
عرف عن راسبوتين جلد نفسه بالسياط، وتبدأ الطقوس بتشكيل حلقة ترتل تراتيلا ثم تتمايل وترقص وتدور بسرعة، يصاحب ذلك مراسيم الخصي.
عوقب زعماء هذه الجماعات بالنفي والجلد، لكن اتباعهم انتشروا باعداد هائلة.
يذكر ان ستالين كان يمارس ذات الطقوس كلما اعدم احدا من رفاقه الشيوعيين طالبا من مقربيه جلده باشجار برية مشوكة، يعود بعدها الى طاغوته وقد برأ من كل شعور بالإثم.
المانوية، مثالنا الثاني، هي ديانة اسسها ماني المولود بعد المسيح بمائتي عام، قال بنبوة عيسى دون موسى، وقد اتاه الوحي وهو في الثانية عشر من عمره وكان مجوسيا يعيش في بابل، زاوج بين المجوسية والمسيحية واخذ من الزرادشتية و البوذية.
وقد وصف اتباعه تأريخيا بالزنادقة ويقوم معتقدهم على ثنائية النور والظلام، وهم يؤمنون ان الاله نصب عرشه في مملكة النور، ولم يستطع الصراع مع الظلام فجعل الحياة أمّاً لتلد الابن ويتكون الثالوث المقدس الاب والام والابن.
والابن هنا اختص بالمعاناة في حربه بين قوى الشر والظلام ومملكة النور، لذا كان لابد له من الافتداء وتعذيب الجسد الذي خلق من الشيطان والتحرر من اللحم للوصول الى الرب.
حرمت المانوية كل الملذات ومنها الطعام واللحم منه خاصة والشراب، وجعلوا من تحضير الماكولات منوطا بأناس اخرين وعند تناوله يرددون بانهم لم يصنعوه وبالتالي لا إثم عليهم. اعدوا الافراط بشرب الماء من المحرمات، وفضلوا عليه عصير البطيخ، كذلك حرموا الزواج والانجاب، واقروا إيذاء الجسد استنادا الى ايمانهم بإنتمائه الى جسد الشيطان.
اما التصوف فهو اتجاه يتوفر في كل الاديان والمعتقدات الوضعية والسماوية وهو باب ينتهي غالبا بالتطرف في إيقاع الاذى بالجسد (الامتناع عن الاكل والشرب الا للضرورة، مع حرمان الجسد من كل الملذات) للسمو بالروح طلبا للرحمة الربانية او التقرب الى الله.
يهتم فقراء الهند كثيرا بالجانب الروحي وينزعون الى التعذيب الجسدي، ويحج البوذيون لمسافة 2100 كم زحفا ومشيا وانبطاحا في رحلة رهيبة من المعاناة والالم على هضبة التبت، يموت منهم الكثير اثنائها، ويمشي الصينيون على الجمر. اما النصرانية فاتخذت من الرهبنة والتبتل والاعتزال والصوم طريقا للاذى الجسدي مع تكرار تمثيل ذكرى صلب المسيح الدامية، وعرف عن اليونانيين مذهب الرواقيين.
وازن الدين الاسلامي بين متطلبات الجسد والروح والاخلاص في العبادة، ويخلو كتاب الله القرآن الكريم تماما من أية دعوة لتعذيب الذات البشرية، بل انه حرم الاذى العمد للجسد "أَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"البقرة:195، وحتى الصوم الذي عرفته كل الاديان السابقة للاسلام في رمضان وليس في شهر آخر، وهو شهر نزول الوحي الالهي لجميعها على الاطلاق، قد نظم بشكل يسر على الصائمين اعسره وجعلت له احكاما تقلل من قسوته في حال السفر والحيض والولادة، ولعل الآية القرآنية تزيل اللبس تماما في مدى رفق الله بعباده "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ "البقرة 185.
و قال الرسول (ص):" إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسر"
وجاء في الكتاب العزيز: (قل من حرم زينة الله التي اخرجها لعبادة والطيبات من الرزق)
رغم ذلك وجدت الدروشة والتطبير وضرب الزنجيل واللطم طريقها الى الناس.
والمفردات الثلاثة الاولى فارسية الاصل.
والدرويش هو الفقير. وتطلق كلمة درويش اصطلاحا على من يكرّس حياته للعبادة والجلوس في صومعته بعيدا عن المجتمع، شغله الشاغل الأوراد والأذكار والعبادة ومجاهدة النفس. حتى شاع عندهم: من جاهد نفسه بإيقاع الاذى بجسده فمات عد شهيدا كما هو الحال لمن جاهد في سبيل الله.
وفي صنوف الدروشة ما لا يطاق من مشاهد التعذيب والالم، وتفسر علميا بالوقوع تحت التنويم المغناطيسي الذي يقوم مقام المواد المخدرة.
التطبير: هي لفظة اهوازية، ويرى البعض لها اصولا بابلية او تركية، وتعني استعمال الادوات الحادة في الضرب على مقدمة الرأس.
وهو احد الشعائر الحسينية التي تقام في الاول من محرم يوم ذكرى الهجرة النبوية، اي قبل عشرة ايام من ذكرى واقعة الطف التي استشهد فيها الامام الحسين بن علي عليهما السلام، وتستمر لمدة اربعين يوما ويقال ان عدد هذه الايام هو ما انقضى بين قطع راس الامام والسير به الى الشام مرفوعا على الرماح حتى اعادة دفنه في كربلاء مع الجسد.
تنتشر ممارسة هذه الشعائر في العراق وايران ولبنان وتزداد حدة قسوتها على الجسد عند شيعة باكستان والهند، اما (العلي اللهية) فهم الاكثر جنونا في ممارستها مع ترديد كلمتي علي الهي.
يعتقد ان اساس التطبير قام على خلفية ما فعلته العقيلة زينب عندما رأت رأس اخيها مقطوعا فضربت رأسها بمقدم محمل الناقة فسال الدم من جبهتها، ولكن هذا يناقض وصية الحسين عليه السلام لها إذ قال "أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي لا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي على وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت“
والبعض يرى في هذه العادة اشارة لاول شج تعرض له رأس الحسين بالسيف قبل استشهاده.
ويعتقد بعض المفكرين انها عادات استوردها الصفيون من روسيا، في ظل الصراع الصفوي العثماني.
وهناك من يقول ان لبس الأكفان ؛ وحلق الرؤس، وضرب الرأس بالسيف، والمناداة بـ حيدر هو رمز إلى الاستعداد والمبايعة على الموت للامام الحجة المهدي الذي يظهر في يوم العاشر من محرم الحرام. اما الهتاف بكلمة حيدر وهو احد اسماء الامام علي عليه السلام فتشير الى جانب البيعة على الموت مع الإمام إلى مبايعة صاحب الزمان على الأخذ بالثأر معك ممّن اغتصب حقَّ جده الكرار (عليه السّلام).
يقال ايضا ان الرسول (ص) كان يسيل الدم من جبهته طوعا بالحجامة حزنا على مصير حفيده في كربلاء.
وهناك من يؤكد ان ابراهيم تعثرت راحلته في ارض كربلاء فوقع وشج رأسه فسأل ربه "لم هذا هل فعلت ذنبا؟" فأجاب جبرائيل "انما ذلك لمقتل سبط اخر نبي على الارض"
ومنهم من يستند الى ما فعله صعصعة الذي اتى من البحرين بجيش لنصرة الامام الحسين فتأخر عنه فضرب رأسه بالسيف وفعل جيشه ما فعل.
لعلي هنا اوجزت احتداما في نقاش لم ينته بعد، فقد اجاز بعض العلماء التطبير والزنجيل واللطم، وحرم كثير منهم ذلك، وهؤلاء يوازون عددا وحججا لهؤلاء ولكل عالم انصاره.
معظم من اجازوا التطبير والزنجيل هم من علماء ايراني الاصل او الإقامة، واستندوا الى ان التطبير وجروح السلاسل واللطم لا تقطع عضوا ولا تقتل النفس ولا تشل الحواس وبذلك فان الضرر من إسالة الدماء لا يعد حراما.
و كل من حرمه استند الى موضوعية الدين الاسلامي في كتابه على تحريم اذى الجسد، ومكانة الامام الحسين عند ربه، وضرورة ثورته واستشهاده لنصرة دينه، وبالتالي لا حاجة لشعائر تؤلم اجساد العوام من الناس الذين لا يعرفون مصيرهم لدى الله، وفضلوا عليها الخطب التي تذكر الناس بفضائله واخلاقه وعلمه، وجميعهم من شيعة آل البيت.
ببساطة شديدة ايقاع الاذى بالجسد موجود دائما في كل المعتقدات الدينية منذ بدء التأريخ، والمدهش ان التطبير كلمة بابلية تشير الى وجود فعاليات مشابهة في المعابد القديمة، ويبتعد كثيرا في مغالاته عن الرجاء في لقاء الرب حقا، او ان الله قد طلب فعلا من بني آدم ان يتعذبوا طلبا لرضاه.
الامام الحسين بن علي عليه افضل الصلاة والسلام سيد شباب اهل الجنة، وقد قاتل قتال الابطال وكان مثالا تأريخيا للثبات على المبدأ وعدم السكوت على الظلم، واني اراه لا يريد لشيعته الا الاقتداء بخلقه وبعلمه والسير على نهجه، اما الجزع في اللطم والبكاء وشق الجيب فعادات عبيد اهل مكة القادمين من الحبشة، وكانوا يقومون بها عوضا عن اسيادهم عند مقتل احدهم في غزوة ما، واما ضرب الزنجيل والقامة فتراث ثقافي فارسي يعود بنا الى المانوية والمجوسية وكل ما قد نقضه الاسلام.
هذا رابط فيديو للشيخ الوائلي رحمه الله يتحدث فيه عن بدعة التطبير وامور اخرى.