د.ماجدة غضبان
لن تشم رائحة البارود ، و
لن تفجع بقطرات الدم ايها الداخل عوالم الفنان البروفيسور د.مصدق الحبيب الملونة..
لن يكون في استقبالك سوى الألوان الرائعة التنسيق و الاستدارات المثيرة.
تجرد من أسلحتك التي
حملتها منذ أكثر من اربعين عاما ، و اخلع قدميك الداميتين و انت تسير قاطعا درب
الهزيمة من الكويت الى حيث تقيم في العراق ، و مزق ثيابا بليت تحت سياط تتوالى على
نسيجها المهتريء لتحيلها الى كساء من الالم ، فقد اجتزت الآن حدود الشرق الساخنة
بشموسها ، و دخلت عتمة لن تعرف لنفسك فيها مسلكا ، و لن تسندك عليها قاعدة ، و لن
تجد لك فيها جدارا يستقبلك دون لوحة تشعرك بالاغتراب ، و تقل لك قف مكانك حتى تزول
ندوب تعذيب ”قصر النهاية”(1).
بعد ان تطيب نفسا ، و تبرد
حرقة دموع الحزن التي صاحبتك دهرا ، و عيناك تغازل الالوان التي لم تشهدها حتى
طفولتك..تقدم الى الامام..و كن شجاعا ، لتنسلخ كما فعل الفنان د.مصدق الحبيب عن
جلدك الغرّافي او المنتمي لأي عرق من عروق دجلة و الفرات ، و لا تقل ذلك شأن
الافاعي فما عرفنا للثعابين فنا سوى اللدغ و لست باقل من غيرك لتفعلها، فقد سبق
لمن امطر روحه الوانا ان نزع جلده دون الم ، و ظل يحمل هيئته البشرية ، و يصول و
يجول في ما يخص الشأن العراقي او العربي ، و لوفائه سمات لا تنكر.
ان استطعت تحويل المستحيل
الى ممكن ، ستقف الى جانب الفنان مبتسما ، و انت ترجوه ان تلتقط معه صورة ، و ان
نظرت في عيني محرجا مجروحا دامع العينين فلا تلمني لانني قلت فيه ما سأقول.
انا مسحورة به كما انت ،
فمن ير الالوان كل يوم يرسمها ، و من ير الموت لن يحتاج لونا لرسم القبور..و ليس
عيبنا اننا لا نملك الالوان بل هو ذنب القبور التي احاطت بنا من كل حدب و صوب حتى
اصبح الرحيل الاخير مغنما و الدفن مكسبا لمن لم تاكله الكلاب الضارية او يختفي دون
اثر يذكر.
الفنان د.مصدق الحبيب لا
يملك من القوة ليفزعك بلوحات “السلفادور دالي” و لن يبهرك بتفاصيل خفية لا تكتشف
الا بعد قرون كشيفرة “دافنشي” واضعا اياها في كل لوحة ، كما انه لن يموت امامك
كمدا متجاوبا مع اخبار عراق يذبح كما حدث مع “جواد سليم” حين اوقف نبض قلبه اصرار
“الزعيم الاوحد” على وجود وجهه وسط نصب الحرية..لذلك عليك ان تدخل بثقة مطمئنا ان
الجدران لن تهتز للوحة تشجيك ، كما لن تهتز الريشة لترسم سنينا دهستها ارجل الطغاة
اتسمت بها قسمات وجهك ، و لن ترتعش يد تحملها فهي لن تفعل..!!.
هل لك ان تؤمن انك في قبو
الصمت و ليس “قبو البصل”(2) ؟؟؟؟؟.
لا مكان للايمان حيث تتحرك
ظلال قدمين جزتهما الحروب و لا وجود لليقين..هنا تفتح النوافذ على اتساعها لا
لتشعر بالحرية ، بل لتعرف انك ابدا لم تصاحب سوى الزنازن ، و ان من يقيم هنا لا
يسمع صرخة سجين ، و لا يرى دموع اطفال الحصار المنكوبين جوعا و مرضا و لوعة.
ربما سترى شيئا من آثار
سومر و بابل و لوحات خطوط عربية تشعرك فجأة انك مع رجل يعرف تأريخ العراق و يجيد
العربية و يمارسها فنا و نقوشا مجردة و سواها يجهل..
خلف الخطوط و النقوش
الاسلامية لن تعثر على ناطقين بها.. سترى فقط انها سرقت منهم كفسيفساء ثمينة تجمل
بها اجواء تجهل منبعها ، لتستقر هنا في هذا المكان دون انتماء لاصحابها..يتيمة
ساحرة ذابلة مغتربة الجذور، يرمم تشقق شفتي رمضائها صانع لا يبخل باللون المبهج و
سريان نبض لا يخفى على عين الجاهل و الخبير.
ان توغلت اكثر سيفتح باب
الحريم ، و سيرمى بالعقال و الكوفية ارضا و كذلك الدشداشة ، و تداس ملابس الفلكلور
الشعبي من (جرغد و شيلة و عباءة) و وشم كانت تتجمل به امهات العراق قديما.
ستختفي الاقواس و الشناشيل
و الدروب الضيقة و النساء الحاملات لاطفالهن ، و تحضر بكثافة شديدة المنحنيات
اللينة ، و سيلتصق الاستبرق و السندس على بعض المرتفعات الانثوية الملساء قبل ان
تبلغ الفردوس ، و ما ذلك ليغطي اجساد الحسان بل ليضيف على المشهد اثارة يسيل لها
لعاب شهريار بماركة امريكية رائجة اكثر من غيره.
ربما ستتذكر اثناء ذلك كيف
ينحني اطفال وادي الرافدين على مستنقع ماء آسن ليشربوا منه ، او كيف تتطاير
اشلاؤهم في انفجار مفخخة ، و ربما يخطف لونك شقاء نساء الغراف و هن يحملن الدلاء ،
و يشربن و اسرهن ماء غير صالح لغسل الثياب لشدة تلوثه بنفايات ثلاث حروب.. ربما ستشهد
كابوس طوابير النساء تحت الشمس الحارقة امام مركز بيع الغاز او النفط او الماء حين
لا يكون في الحي كله سوى حنفية واحدة يحتشد حولها الجميع كما يحتشد النمل حول قطعة
سكر.. ربما ستتذكر العوائل التي تسكن تحت الجسور في العراء.. و قد تنتحب حين تتذكر
كم من عاهرة عراقية رأيت في دول العرب و انت تتوجه صوب الولايات المتحدة الامريكية
تحمل شهادة جامعية بيعت في سوق النخاسة ، و اصبح اهل الخليج يتناوبون عليها كفنجان
قهوة خلال سمر خيامهم البدوية ، يحزون قلبك باذلالها ، و انت صاغر غير معترض في
انتظار تأشيرة الدخول او الخروج من و الى مطاراتهم..
ربما سيمر هذا الشريط
الدامي امام عينيك لحظة تنتقل عيناك فزعة بين عري نساء الفنان د.مصدق الحبيب
واجسادهن المرمرية و (ما قل و دل) من ملابسهن المطابقة لذوق المواقع الجنسية و
نوادي التعري الامريكية..و قد تشعر ان “مس بيل”(3) لم تكن لتفعلها فهي اشد اخلاصا
لامبراطورية لا تغيب عنها الشمس كما هو “لورنس العرب”(4)مع انهما مجرد جاسوسين
نشعر حيالهما بالاحتقار و ما كان ليفعلها “مارتن لوثر كنغ”(5) الاسود لو تمكن من
مسك ريشة و الوان و كان له باع في الرسم ناسيا قومه و قضيتهم و راميا ببراعته و قدراته
الفنية في مستنقع غرائزه مستخدما النصف السفلي من جسده دون العلوي كريشة بارعة في
تحسس المستدير و المثير مدعيا ان ذلك جزء من مشروع الحلم الامريكي و شيئ من تحرر
الذات البشرية من كل قيد يشدها نحو الخلف.
ستقول لنفسك انها لوحات
جميلة لو كان الفنان امريكيا من اصل اوربي ، فقد تكون المرأة كذلك في
بلدانهم..غيران هباب طلع النخيل و رائحة القداح و خبز التنور الحار ستحاصرك ، و
سترى رغما عنك وجها عراقيا موشوما لأمرأة عجوز و هي تجمع بضعة عظام بخرقة بيضاء ،
و تأمل انها عظام ولدها..سترى وجوها اختفت بصمت ، و وجوها ستفقد ، و الصمت ازاء ما
يهز العراق و يفني اهل ارض السواد يحيل معرض الاجساد الرخيص الذي تفتعله ريشة
عراقية مجحفة بحق اهلها الى مقبرة تدعي الحياة معتلية موتانا.. اذ ذاك لن تجد بدا
من اطلاق صرخة محملة بإعصار يحمل ثقل اربعين عاما من الالم.
و قد تقول كما افعل الآن:
ان هذا ليس بمعرض لوحات
متحرر من قيود حريم الشرق بل اعتراف بشرعية جز رؤوس و محو تأريخ و اقدام على خيانة
عظيمة لكل ذرة عراقية طافت في المتاهات ، لكل نأمة صدرت من حي يدفن و من سجين في
الظلام و من طفل يحتضر في مستشفى لا تتوفر فيه اداة حقن واحدة لعلاجه.
الجمال غنى للنفس حين
تتوفر اسباب الحياة و هو قبح حين يعاني المرء و ينحدر ألقه كدمعة جافة بلا ضميرعلى
ريشة حاملها.
لابد من الاعتراف ان
الانسلاخ قد تم ، و ان جمالا لا يتغنى بارض الصبا هو فعل لا يتناقض مع فعل ابي
رغال و المستنسخين عنه ، و جميعهم من حملة الشهادات و مدعي الديموقراطية ، و
يحملون جنسيات بلدان رسخت فيها مباديء احترام الحريات و الحقوق المدنية ، مازالوا
يدوسون باقدامهم رأس كل عراقي يرفع رأسه هاتفا بكلمة لا.
شيمة العطاء الفني الوفاء
للحقيقة و اعلانها جهرا، و ان اتصف بغير ذلك فعلى مبدعه ان يخبيء نتاجه داخل جدران
بيته لانه موقف ذاتي و يخصه وحده ، و لن يحرك فينا ساكنا و اهل العراق يعيشون
هجيرة تموز و آب تسع شهور من العام دون كهرباء و دون ماء صالح للاغتسال قبل الشرب
، و يموت 75% من مجمل أعداد الوفيات بسبب تفشي السرطان في اجسادهم الذي لا يستغرق
اكثر من اسبوعين ليطيح بالضحية..
و ان هذا ليثير في نفس اي
غيور مخلص و محب لوطنه سخطا عظيما عمن نام قرير العين و “جاراته غرثى يبتن
خمائصا”(6) و هو يلون اجسادا بليت لكثرة ما طليت بمواد التجميل و التلميع و
التمليس و عمليات شد البطن و الصدر و الورك.
الفنان د.مصدق الحبيب
يختصر المرأة في جسدها ، و يجردها من انسانيتها ليس هذا فحسب بل هو يهبط بريشته
الى مستوى انتاج المجلات و المواقع الجنسية المبتذل فيحاكيها دون الالتفات الى
القيمة الفنية التي ينطوي عليها وجود المرأة و عطاؤها الجمالي كواقع فعلي مجسم.
لوحاته تعجز عن تصوير الحب
فقد سبق له بتر ما لا يبتر..تعجز عن العودة الى المنشأ و هو مضمخ بعار عراقيته و
اسلامه بالولادة و تراثه الذي لا يضيف له قيمة انسانية في مجتمع يحتقر العرب
المسلمين، و عوضا عن تصديه للاحتقار و التعريف بحضارة الغراف الذي شقه الانسان
السومري بيديه و قد ترعرع هو نفسه على ضفافه في بلد يقطنه لا جذور حضارية له يرتد
البروفيسور الحبيب منتكسا و منطويا على نفسه مخربشا ليل نهار ديدنه المحصور بين
نهدي المرأة و ردفيها..
في لوحاته التي تناولت
المرأة يسفر الوجه الشرقي عن تعطشه الوحشي و تذوب الالوان و الخطوط في مطاردة
شرقية فجة لتكورات المرأة الرائعة لتحيلها الى شهوة شهريارية ملوثة بدم العذارى ،
و لنكتشف ان اكثر من ثلاثين عاما من الغربة لم تغير شيئا في واقع من يضع طرف
دشداشته في فمه و هو يجامع زوجته و يمتنع عن تقبيلها للسبب المذكور آنفا.
المرأة العربية ملغاة
كقضية انسانية تستحق حمل الريشة بالوانها لأجلها لدى البروفيسور الحبيب ، و لا
يظهر منها سوى امتلاء ردفيها ، عدا ذلك فان المبدأ الغربي القائم على التجارة
بالجسد يسود سوق النخاسة الفني الذي يقبع الفنان مصدق تحت رحمة اخلاقه الجائرة ،
لا يكاد يتبين حضارة عصره من جرائمها ضد المرأة ، محيلا الكائن الانثوي الى تابع
موثق بسلاسله الفنية مستجيبا لشهوة الرجل ، حاصدا بريشته رؤوس النساء مبقيا على
اجسادهن كنبع لحث همم الغرائز مسيئا للفن ايما اساءة مفرغا اياه من فحواه
الانسانية قربانا لملذات رجل الشرق و لعمري انها لكبوة مزمنة لا تغتفر لذي الاصول
الغرافية و هو ينأى عن جذوة الاتقاد الفني منفيا و مفنيا في حرمان حمله معه في حقائبه
الى مخيم غربته ليصبح هو العلة و المعلول وليس قضية المرأة و معاناتها الرهيبة
شرقا و وغربا.
المفارقة المحزنة ان
الفلاح قد زرع اجسادا انثوية امريكية بيد شرقية مخشوشنة كان حصادها ضياع هوية
الفنان الانسانية و انتمائهلوطنه العراق و الاجحاف و التنكر التام لقضايا ابناء
جلدته مضافا اليه و بشكل مخز الاهمال التام لقضية امرأة الغراف التي انجبته و هي
انموذج يمثل كل نساء بلد الرافدين مستمدا من نسيجه المهجن اخلاصا شديدا لذاته
الامريكية ومحصلي ضرائبها ممتنا لعبثها و استهتارها بمصائر الملايين من شعب العراق
و ليس من دليل اكثر من انغماسه في لذة محرمة تعد جرما ازاء ما يعانيه العراقيون
دون طرحه لقضاياهم من خلال ريشة مشهود لها بالبراعة.
اني لأرى في ذلك خيانة
ضمنية لا تختلف كثيرا عن خيانة من قدموا مع الدبابات يسحقون رؤوس العراقيين و هم
يحملون لافتات تتكلم عن الديموقراطية.
ايها الفنان العراقي
الشطري البروفيسور د.مصدق الحبيب لطالما اعجبتني لوحاتك ، و يهمني ان اقول لك ان
المرأة العراقية (بجرغدها و شيلتها و عباءتها) و دلاء الماء على راسها احق بريشتك
من مترفات منهاتن ، و ان قبور من رحلوا ستندثر ان لم تدب الحياة فيهم من جديد مستلهمين
خلود بحثهم عن كلمة الحق و الحرية خلل نبض ريشة شريفة بارة لضفاف الغراف و اهله.
__________________________________________
(1)قصر النهاية سجن في
العراق قلما يخرج منه الناس احياء قبل الاحتلال.
(2) “قبو البصل” قصة
للروائي الألماني جونترجراس الحائز على جائزة نوبل.
(3)مس بيل جاسوسة
بريطانية مهدت لاحتلال العراق بعد الحرب العالمية الاولى.
(4)لورنس العرب بمفرده
استطاع ان يجعل من حلم سايكس و بيكو واقعا.
(5)”مارتن لوثر كنغ”زعيم
أمريكي من أصول إفريقية، قس وناشط سياسي إنساني، من المطالبين بإنهاء التمييز
العنصري ضد بني جلدته، في عام 1964 م حصل على جائزة نوبل للسلام.
(6)بيت شعر للاعشى “
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا “
majidah64@gmail.com