لم تدهشني كثيرا صورة الماكنة الزراعية (ماركة عنتر) والتي تم نشرها ضمن مقالة (سيد تراكتور)، ووصلتني عن طريق بريدي الالكتروني.
من البديهي ان تزدحم بقطع القماش المختلفة الاحجام والالوان او ما يسمى ب (العلكَـ)، وهي الاشارة التي يربطها طالب المراد في مكان ما من تلك الماكنة لحين تحقيق مراده، فهناك تقيم كل مآسي الإنسان العراقي متجسدة بقصص ضحاياها والذين اصبحوا جزءا منها لا يرون الى وجودهم الا من خلال سوادها المدلهم.
و قد صادفتني صورة الماكنة المقدسة (المركونة في السماوة منذ سنين طويلة) ذاتها على مواقع الشبكة العنكبوتية، وخاصة الفيسبوك مرارا، نظرا لشهرتها، وذيوع صيتها في حلها للمشاكل المستعصية والإتيان بالمعجزات دون ان تحرك ساكنا، ونشرتها انا نفسي على صفحتي الشخصية متسائلة عن حجم الأمل والتشبث بالحياة في نفوس أناس يقطنون تلك الأماكن المقفرة من امل حقيقي او حياة حقيقية.
اقول انها لم تدهشني لأنني قد نشأت قرب قبر (الميهول) أو (المجهول) في ناحية قلعة سكر، وهو قبر لرضيع غير معروف يقال ان نسبه يعود لآل البيت، وعرفت كم يعقد الناس آمالهم على كرامات ومعجزات هذا القبر، وينذرون النذور، ويزورونه في موسم (الدخول) او (عيد نوروز) بشكل جماعي حيث تزدهي الأرض بخضرتها ويصبح الإحتفاء بالقبر احتفالا مبهجا وعيدا سنويا لأهالي المنطقة.
لكنني لا اخفي دهشتي هنا من اجماع سواد الناس على اختيار سبيل الإيمان بالغيبيات _شرط تجسيدها ماديا مما توفره الحياة لهم سواء على هيئة حدث او تكوين ما - وتحميلها مهام جسام تتعلق بتغيير مسار حياتهم من الأسوأ نحو الأفضل.
اصبح معلوما - دون الحاجة لتبرير - ان هذا هو ديدن الإنسان ولازال اينما بدا له المستقبل مجهولا او هددت حياته وابتعدت عن الاستقرار الإقتصادي والإجتماعي والنفسي.
وهو أمر لا يخص أهل جنوب العراق او العرب او من اتبع دين الإسلام، إنه حيث يستبد الخوف والجهل والفقر والمرض بالناس فلا يجدون ملاذا سوى التقرب الى قوى الغيب الخفية لحماية انفسهم وممتلكاتهم ومستقبلهم القادم من رحم الغيب نفسه.
لازالت والدتي تؤمن اني لم أكن لأتزوج لولا (اضحيتها) للامام العباس عليه السلام، ووضع خرقة (العلكَـ) الخضراء في حقيبتي اليدوية والتي اجتهدت في نقلها من حقيبة قديمة الى أخرى جديدة اشتريتها خشية ان ينتهي مفعولها فأجد نفسي أرملة أو مطلقة، ليس فقط بسبب سؤال امي المستمر عنها .. انما بسبب احترامي لقدسيتها التي ربيت عليها رغم عدم ايماني المطلق بها.
هذا الخوف الذي لا يبارحنا من كارثة قادمة او حزن سيحيط بحياتنا اراه في كل سطر يوميا على الفيسبوك (الشر الذي لابد منه مع انعدام طرق التواصل الاجتماعي المباشر)، واضحا في خطاب كل فرد من افراد هذا المجتمع الإفتراضي وفي كل دعاء، ولا ابالغ ان قلت ان هنالك دعوة شبه عامة الى الاستناد على قوى خارقة متمثلة بالمقدسات التي توارثناها كل حسب معتقده وايمانه لتستقر النفوس وتطمئن القلوب وترضى بواقع ظالم لا يرضخ له مؤمن بالله ولا يستسيغه لنفسه مع وجود خالق اسمه العدل.
في اماكن اخرى من المعمورة، وحيث تصبح الحاجة لقوى غيبية تتموضع في خرقة ما او تراكتور زراعي او مرقد مقدس اشبه بالنكتة، نجد من يبحث عن حلول لمعضلات العالم الرأسمالي لا بالثورة عليه وتغييره، بل باستنفار الطاقة الخفية في جسد الإنسان لتطوق اقداره وتشكل بطانة تحميه من الصدمات المهولة غير المتوقعة المتحدة بلا انفكاك مع غول العولمة.
في الحالتين مع الاجتهاد في الايمان بالطاقة الغيبية خارج جسد الانسان او داخله فاننا نتموج كالأميبا البدائية في كفاح مستميت لنتكيف مع واقعنا ونتقبله على مرارته باستنباط طريقة معدلة لتفكيرنا تمنعنا من الجزع ورفض قبح الحياة وجورها على بني الإنسان، وتهدهدنا لننام بانتظار يوم قادم افضل دون فعل ايجابي نحو التغيير العملي.
و كما هو جلي فان هذا اليوم لن يأتي ابدا ويضع نفسه بين ايدينا كهدية الهية دون جهد انساني في البحث عن مصير اكثر عدالة للبشرية .. ويبدو ان زمن خرقة امي التي انهت عنوستي وعثرت لي على زوج سيطول، و(الميهول) سيظل كعبة المعدمين والمسحوقين، مثلما سيكون البحث عن حلول للمشاكل الحضارية المعقدة من خلال الغوص في اسرار طاقة الإنسان الخفية اشبه بتعليق الرايات والعلوكَـ على تراكتور السماوة ماركة عنتر.