الى شقيقتي الراحلة مبكرا الشاعرة
ساجدة الناصري/المهندسة ساجدة غضبان المشلب
"المتني.. و على المامش علمتني"
حفرنا طويلا بجنون..
مجموعة من النساء المنقبات الباكيات و رجال
يرتدون الدشاديش المعفرة بالتراب
لم يصدقنا الجندي الامريكي الذي ترجل من
دبابته لكنه حين انصت و وضع اذنه على الموضع المحفور من الارض سمع صراخهم..و حمل
معولا اخر و حفر معنا حتى غياب الشمس..
_كيف ستعيشين بجنونك هذا و انت تحملينه معك
زادا و زوادة؟؟؟؟؟.
سمعتها كثيرا من امي..حتى حين خط الشيب
شعري..
يوم ربطوني في الحظيرة قرب بقرتنا الوحيدة
علمت ان هذا كل ما لدى امي من حب و كل ما لدى اهل القرية من الرحمة.
تاتي لي بالزاد و انا مربوطة الساقين و
اليدين بحبال متينة و تغيم عيناها و تمطران.
وشاحها تلبسه الفتيات الصغيرات قبل
البلوغ..انا لم احظ به بعد..فانا الاصغر..
في بريطانيا تمشينا طويلا قرب نهر التايمز..
_ اترينه يشبه دجلة؟؟
_ لا انه صورة مشوهة للنهر..فدجلة تطفو فوقه
الجثث..و هذا لا يعرف سوى القوارب و اصوات الضحكات و اضواء الفرح.
لم يحتضن الموتى..لم يعانق الضياع..
_ اختاه!!!!!!!!!......
صوتي تمدد عبر الحقول و السباخ..بلا انتهاء..
شعرت باسنان الجوع تمزقني كأنياب وحش ضار..
لم تات اليوم بصحنها و لم تطعمني..
الجنون في قريتنا طقس يمارس بقدسية تامة..
يعدون له كل عام و يوزعونه بين بيوت الطين
كما يوزعون مشقة الحصاد تحت شمس نيسان على نساء و رجال القرية كواجب حتمي بغض
النظر عمن يمتلك هذا الحقل او ذاك..
يرقصون في اعراسهم كما يلطمون على صدورهم و
يمزقون جيوب اثمن ارديتهم السوداء.
_ لم ربطوني يا اختاه؟؟؟؟
_ لانهم مجانين!!
_لم اتهموني بالجنون اذن؟؟؟
_ لانهم مجانين ايضا.
_من العاقل في القرية يا اختاه؟؟؟؟
_ انا و انت فقط.
في لندن ضحكنا طويلا حين تذكرنا احد اقربائنا
و كيف لاط بمطية بيت جدي..كانت تلك متعته المفضلة في الظهيرة حين يبحث الجميع عن
ظل صغير ما في عراء القرية.
في احد البارات جلسنا و احتسينا كأسين من
البيرة..لم نتوقف عن الضحك..احدى النساء يوما قالت و نحن نحتطب:
_ من خلق الله؟؟
لم يجبها احد بل تعالت الضحكات الانثوية
الخجولة تحت اللثم السوداء.
_ ما شأنك به انه في السماء؟؟؟.
ظل مرآه قبابا ذهبية برائحة الحناء و الحلوى
و انا و اختي قبلناه طويلا لنبلغ الجنة..اكثرنا من القبل
لنحصل على افضل بقعة..
لنحصل على افضل بقعة..
ازدحم السوق و قادني رجل يطوف بي لعل امي
تراني..بكيت طويلا..بدموع سخية حتى بعد ان وضعتني امي في حجرها لم اتوقف عن سخائي
وجرى دمعي طوال الليل الذي تلى عودتنا من
ارض الله.
صفعتني امرأة.. و صفعتني اخرى.. و توالت
الصفعات و الركلات بلا عدد او توقف.
و السيد الذي ربط رأسي بعصابة العباس الخضراء
بعد ان كوى رأسي بقطعة حديد حامية قال كثيرا من الكلام غير المفهوم و اغمض عينيه
كمن يتقي سماع صراخي.
_ اربطوها مع البقرة.
قالها حين نفذ صبره.
_ يمه انا رأيت الله و سرت خلفه ليأخذني الى
السماء حيث نحصل على ما نريد..انتم من اعدتوني اليكم.
كررت هذه العبارة مئات المرات..
رماني اطفال القرية بالحجارة..
نهشتني الكلاب..
امي من رحمني فقط من السباب و البصاق و الزجر
و الرفس و حتى اغراقي في الساقية.
ما عرفت السلام الا في الحظيرة مع بقرتنا
التي تعرفني جيدا و تفقه ما اقول.
مر يومان ربما او ثلاثة..و الحبال تحز جسدي
الذاوي..و العطش ينشب اظفاره في جوفي.
_ اختاه!!
خيل لي اني كنت اصرخ..
_ الحمى منعتني من النهوض..
قالت و هي تسقيني ماءا يعلوه قش كثير.
سعلت كثيرا في الطريق الى المدرسة .. السعال
الديكي يجعلني اعوي ككلب.
_ سنتأخر عن المدرسة هلمي!!
_ اختاه اني اعجز عن السير!!
تجرني و هي تخشى ان تضربنا معاونة المديرة و
الميني جوب يكشف عن لحمها الكثيف الابيض دون ان تحاول اخفائه
عن اعيننا المفتوحة باندهاش.
بغداد هي ذلك الدكان بمصابيح صفراء تشبه ضوء
فانوس بيتنا لكن دون دخان..و علب شفافة تفيض حلوى.
_ هل تذكرين كيف كنا نحلم ليلا اننا عثرنا
على عشرة فلوس على الارض و اشترينا المثلجات؟؟؟؟؟.
ضحكت اختي..
_ انها لا تشبه حتى مثلجات لندن..ما الذها.
حفرنا طويلا..
لم يعننا ان كان اخي من يصرخ تحت الاسواق
المركزية ام غيره..كنا نود الوصول اليهم حيث يطلبون النجدة.
تعرى لحم اظفارنا و نزفت ايدينا و اغرقنا
الثرى عرقا و دموع.
آليات ضخمة اعتلاها جنود المارينز الكثر بالوان
وجوههم السوداء و البيضاء دكت البقعة ذاتها لمدة اسبوع..ثم لم نعد نسمعهم..
قبلته و بكيت..
صفقت بحماس شديد..
انه الكتاب الاول..
_ الا تعرفين الفرح؟؟؟؟؟؟؟
انه كتابي الاول و انت تبكين؟؟؟؟؟؟؟.
_ اختاه انا و البقرة لم نتعلم الضحك..هل
نسيت؟؟؟؟؟؟؟
قهقهت..
_ لطالما اضحكتني
يا مجنونة القرية..لكني لم ارك الا باكية!!.
لم يودعونا في زنزانة واحده..
ميزت صرخاتها ساعات التعذيب عن صرخات
السجينات الأخريات.
و لم نتكلم ابدا عما جرى هناك..كانت نظراتنا
تلتقي.. تبرق و ترعد و تمطر ثم تطرق بصمت.
التايمز الهاديء اشبه بزنزانة جمعتنا معا..
وطن القباب و الجنون و الحظيرة و السباخ و
تلال الحصاد و بغداد و الامسيات الثقافية و الاحزاب المحظورة و التعذيب..كل ذلك لم
يكن اقسى من الغربة و التعثر بين المطارات الغريبة التي لا يزاولها الشك ان كنا من الجنس البشري ام من القرود
كما صنفنا هتلر.
في غرفتنا الصغيرة الخالية حتى من مروحة
تبادلنا انا و اياها الكتب و التهمناها التهاما..
تلك التي انتهت بنا الى الجلوس على الكرسي
الكهربائي و حفرت جسدينا بالسياط.
على قبرها المنقوش بلغة غريبة مع ترجمة
بالعربية وضعت كتاب و "الفجر هاديء هنا"
كان الفجر حقا!!.
جاءني صوت امي عبر الهاتف:
_ ايتها المجنونة
انا لا اصدقك..الا ان نطقت البقرة التي
ربطناك معها.
غادرت متوجهة الى التايمز
_كيف ستعيشين بجنونك هذا و انت تحملينه معك
زاد و زوادة؟؟؟؟؟.
لم تصدقني امي حتى حين قلت لها انني قد
دفنتها في لندن.
لم تصدق كل قول قلته طوال عمري..
و ظل اهل القرية يذكرون الحبال و البقرة..حين
يقسمون بالسيد محمد و يقولون ان المجنونة تعالج مرضى الانجليز في لندن وتقول انها
دفنت اختها.
_ هل لديهم من قبور في بلاد الكفر؟؟
ملاحظة الى اختي الراحلة ساجدة:
طالما طلبت أن أوثق حياتك و ما فيها في كتاباتي ، و ها أنا أفعل ، لكن لا شيء يمكن أن ينقل بالكلمات ما كنت عليه ، و كيف أصبحت أنا بدونك..
ملاحظة الى اختي الراحلة ساجدة:
طالما طلبت أن أوثق حياتك و ما فيها في كتاباتي ، و ها أنا أفعل ، لكن لا شيء يمكن أن ينقل بالكلمات ما كنت عليه ، و كيف أصبحت أنا بدونك..