الموت في بغداد

د.ماجدة غضبان المشلب



الى المدينة التي تأبى الرحيل ومغادرة الضمير الوجود



_ لا تلوموني لأني اتحدث عن الموت فحسب فإني لم أر سواه منذ الطفولة.





بعيدا عن الجبال


جسده بالغ الثقل كحجر برقبة غريق و عيناه تفقدان قدرتهما على الرؤية لحظة فاخرى.

تحت أصابعه المرتجفة بدت أخاديد وجهه المشوه أشد عمقا من سابق عهده بها.

اغمض عينيه و هو يبتلع مجموعة هائلة من الحبوب المهدئة المتغابرة اللون والحجم ، وفكر ما عساه ان يكون منظر الشارع خارج غرفته المعتمة تماما.

هنالك مفتاح دائما عند والدته التي لم ير غير طيفها منذ أمد بعيد و بضعة ذكريات عن رفاقه في كهوف جبال السليمانية.

"وددت لو اقرأ من جديد رواية (ضياء نجم بعيد)لألكسندرتشاكوفسكي ،واسمع اغنية كردية بصوت حبيبتي سه لار".

ارتعشت حنجرته تحت جلد رقبته ثم ارتخت يداه على جانبي السرير و غرق في سبات عميق.




أوباما

رفع صوت التلفاز
كان أوباما يتحدث العربية الفصحى بطلاقة ويضحك بآستهتار وهو يعترف لمجموعة هائلة من الصحفيين أن الولايات المتحدة خلف ما يحدث من تغييرات في الشرق الاوسط و إنها قد إبتدأت بقطف ثمار الزحف بإتجاه الديمقراطية حين فعلت فعلها بالفيسبوك بعدد محدود من عملاء المخابرات ألهبوا الناس بعبارات تناقلتها المواقع الالكترونية فكان ما كان.
اطفأ التلفاز و شعر بسكين حاد يغرز في قلبه و استسلم جسده لهدوء تام فيما كان جهاز التلفاز يصخب بأغنية ما.




تحت ظلال الاباتشي*


أصيص عند الباب الرئيسي المنفرج تعلوه نبتة أذن الفيل،وامرأة شابة تطارد زنبورا بمكنسة.

 رجل في عقده الرابع جلس على عشب الحديقة غير المشذب ينبش بعود جاف صغير التربة الرطبة ليخرج ديدانا تلتقطها الدجاجة المتيقظة لحركة يديه.

المروحيتان تدوران كحشرتين ضخمتين قريبتين من سقوف المنازل حول محور لم يتغير،المرأة والرجل يتابعان بعينيهما القلقتين من خلال فرجة الباب صبيا يحمل بندقية بلاستيكية اكبر من حجمه يركض في الزقاق وهو يلاحق دوران المروحيتين بنشاط  جندي في ساحة تدريب.

خفت صخب الأطفال  الذين يدورون معه ، و تسمروا رافعين رؤوسهم نحو سماء صافية تلهبها أشعة الشمس،وضاعت صرخات دهشتهم في ضجيج المروحيتين.

وقف الصبي لبرهة من الزمن ينظر بذهول إلى قائد الطائرة ومساعده قبل أن يرفع بندقيته مزهوا إلى أعلى كتفه وهو يرمق بشيء من التحدي مساعد الطيار الذي وقف عند باب الاباتشي المفتوح يبادل إبتسامة الطفل بنظرة فزعة.

انطلقت عصا بلاستيكية صغيرة برأس برتقالي باتجاه امرأة عجوز راحت تهرول نحو مصدرها وهي تصرخ بذعر.

تجمع الصبية حول بركة الدماء،و فاحت رائحة البارود
احتضنت المرأة الجثة الصغيرة الدامية وجلس الرجل الى جانبها يرتعد بشدة.

حلقت الحشرتان الهائلتان بعيدا عن سقوف المنازل.




الامن العامة

إستيقظ مندهشا ثم أصابه ذعر شديد..!!
كان مربوطا الى سرير قائم مستند بأرجله الأربعة الى جدار داكن اللون ،
لم يتبين الأشكال البشرية المتحركة في القتامة المحيطة به ، رائحة دم متخثر تملأ المكان والسوط يهبط و يرتفع مثيرا غضب رجل يصرخ بجنون.
ادرك بعد غيابه عن عالم بلا اضواء و لا الوان لفترة يجهل مداها إن توقيعه على ورقتهم اللعينة لن يغير طريقه نحو غرفة لا يعود منها أحد حيا.
تخشب على سريره و أصبح جسده باردا كقطعة ثلج لأكثر من ساعتين قبل أن يلاحظ الرجل الغاضب أن سوطه يحفر أخاديدا عميقة جدا في جثة السجين.




ردهة الاطفال

عيناه غائرتان وجسده الهامد يشغل حيزا ضئيلا من سرير المستشفى القذر.
تحسست ملمس يديه الصغيرتين اللتين فقدتا حرارتهما ووضعت رأسها بذهول على صدره الساكن.
لا احد يرتدي الزي الطبي الأبيض في هذه البناية المعتمة المهجورة.




زهور

تحركت نحوه بتوسل هاديء وسكّينه تومض تحت اشعة شمس الصباح.
انحدرت على خدها الوردي دمعتان رائقتان وارتعشت ورقة مغسولة بضباب الفجر.
ندت آهة غير مسموعة ، و آستمر الرجل مشدوها بتنسيق باقات الزهور الملونة اليانعة راجيا في سره أن يحصل اليوم على أجره كاملا لتهدأ زقزقة أربعة مناقير مفتوحة تصخب في رأسه دون توقف.




أغصان لبلاب

انتفض جسدها لبضعة دقائق وهو يضغط على الوسادة الصلدة وعيناها تحملقان فيه بهلع شديد قبل أن يتوقف تماما.

لم يكن في المنزل الرث ما يستحق الاهتمام سوى أغصان لبلاب تعانقت أوراقها مع اطار النافذة المفتوحة على الدوام ، ركل الأصيص بقدمه و شد فروع الشجرة الطرية نحوه فغطت وجهه المحتقن ، و قد أمعن في تمزيق أغصانها بأسنانه بعنف ساحقا على بقاياها بقدمه.

بصق على جثمانها المثير للرعب وخرج و كأنه يتنفس كل شهيق قادم نحو وجهها المغطى بزبد الموت.




من قتل زهرتي البنفسجية؟

سحرته حين لمحها عقب هطول مطر غزير أواخر آذار و هي لم تزل عشبه صغيرة غضة أنبتتها فسحة ترابية تكاد تكون غير مرئية حبلى بالحياة بين حائط الاسمنت وساحة الاسمنت القذرة  خلف العمارة التي يركن عربته فيها.
اقسموا أن يأتوا بعرباتهم بعد ساعات العمل المضنية في السوق وقد اطلعهم على سره الجميل و بخجل شديد كأنه يتحدث عن عشيقته.

زغبها البنفسجي اللون أشعره بترف لا يمكن مقارنته بشعيرات بطانية الجيش الخشنة ،كل ما تبقى من أبيه شهيد الحرب التي لم تتوقف بعد.

خمسة أيتام بأعمار متقاربة يتشهون مرأى الألوان و لو في حلم أو كذبة أجاد بها عليهم صديقهم السادس ذو العشر سنوات.

ربما كانت أول زهرة حقيقة يشاهدونها بلونها البنفسجي عن قرب، حابسين أنفاسهم جالسين القرفصاء، حريصين أن لا يؤذوا رقتها التي لم يروا لها مثيلا في عالمهم الناصل الألوان.

حلق خيالهم المبتهج مع شظايا عرباتهم الصغيرة ببضاعتها الرخيصة نحو الفضاء بين ركام البنايات.

لم تكن زهرتهم واسعة الأكمام بما يكفي لتغطي بقاياهم الدامية على أنقاض العمارة القديمة.
______________
*هذه القصة منقولة عن حادثة حقيقية وقد اعلنت القوات الامريكية عن طريق الاعلان في دور العبادة عدم مسؤوليتها عن قتل اي طفل يحمل بندقية بلاستيكية صنعت في الصين.











Unknown

About Unknown

كاتبة عراقية ملحدة الحمد للعقل على نعمة الالحاد. تولد عام 1964. حاصلة على البكلوريوس في الطب و الجراحة البيطرية. صدرت لي عدة مجاميع شعرية. تنوع نتاجي الأدبي بين الشعر و القصة القصيرة و النص المفتوح و المقالة. لازال هناك المزيد من المخطوطات الشعرية والقصصية تتكدس بين برزخ الحلم و حقيقة التجسد...... لدي مشاريع روائية تنتظر لحظة قطافها.،

Subscribe to this Blog via Email :