وجود المرأة _الام ، هو القطرة الندية الاولى لفجر الشعور بالامان عند الطفل ان فقدها و قدر له ان يكون ذا احساس مفرط متلمسا هلعه ازاء خطب الفقدان فانه قد يُصيّر مبدعا و قد يصبح سلطانا و في الحالتين يظل هائما يبحث عن مستقر الارض دون سماء تستقبل جناحيه.
لم تكن أم ﺑودﻟﯾر سوى ﺷﺎﺑﮫ ﺻﻐﯾرة ﻣراھﻘﺔ حين ﺗزوﺟت أﺑﺎه الشيخ الكبير وﺑﻌد وفاة والده ارتبطت برﺟل آﺧر أﺛﺎر حقدا و احزانا ﻓﻲ ﻧﻔسه كطفل حتى فشل دراسيا و طرد من بيت زوج الام ، ليعيش وﺣﯾدًا ﺿﺎﺋﻌﺎً تتناوشه حياة التمرد مبددا ثروته كلها دونما حساب.
لقد حفر غياب امه هوة لا قرار لها و لا سابر لغورها تدور فيها العواصف لا لتضمحل كزوبعة في فنجان بل لتغير مسيرة الشعر العالمي تماما مثلما احدثت بصمتها الواضحة في عالم الفن التشكيلي.
واقعا لم يعرف بودلير قبل ديوان "ازهار الشر" كشاعر انما اشتهر كناقد فني عقب كتابته حول الصالون الذي اقيم عام 1845 و هو تقليد متبع في فرنسا منذ عام 1743.
و قد استطاع ببصيرته الفنية الثاقبة ان يرصد الحركة الفنية المعاصرة له و السابقة لوجوده حتى انه كتب قصيدة كاملة ضمت اسماء اللامعين من الفنانين مع وصف شعري رائع:
"(ريبنز)
يانهراً للنسيان وبستاناً للكسل ووسادة من لحم غضّ
لا للغزل
ولكن لتزدحم عليها الحياة وتضطرب بغير انقطاع
كما يضطرب الهواء في الفضاء والموج في البحر
(ليونارد دي فنشي)
يا مرآة عميقة فاتحة تلوح فيها فاتنات الملائكة
بابتساماتهن الغامضة من خلال جبال الجليد
وأشجار الصنوبر التي تحاصر بلادهم
(رامبراندت )
أيها المشفى الحزين
المملوء بالهمسات
المزين بصليب ضخم تفوح منه الصلوات
من بين الأقذار ممزوجة بالدموع
لم يظفر من الشتاء إلا بشعاع مفاجئ
"ان شخصية بودلير الشاعر شكلت المنطق و الارض الخصبة لبودلير الناقد دون شك لانه من النادر ان يصبح الناقد شاعرا بينما في ذات كل شاعر يتوهج ناقد على حد تعبير بودلير نفسه".
يقول في كتابه (الفن الفلسفي)، (ما هو الفن الخالص في المفهوم الحديث):
(هوأن تخلق سحراً متلاحقاً يحتوي الموضوع والعلة معاً والعالم الخارجي للفنان والفنان نفسه, بشكل يستطيع معه إلقاء محاضرة بعنوان ضآلة الحقيقة في العالم الخارجي).
ان الفصام الذي نما عبر خواء قلب الطفل و هو يتسارع بنبضه ملتاعا لهجر اول انثى عرفها تحول الى جدار سميك رغم شفافيته مطيلا المسافة بينه و ما بين نفسه و بينه و بين العالم و لكي يحتال على هذه الحواجز المتمثلة بإحساس عظيم بالوحدة انشغل الشاعر و الناقد الفني بوضع ذاته امامه لعله يرى من خلالها عالما اخر.
و يقف جان بول سارتر في مقدمة ديوان ازهار الشر كثيرا عند عذاب بودلير:
(لبودلير مسافة جوهرية تفصله عن العالم ليست هي مسافتنا نحن فبينه وبين الأشياء تتدخل دائماُ نصف شفافية لزجة قليلاً معطرة كثيراً كأنها ارتجاف هواء الصيف الحار وهذا الشعور المراقب والذي يشعره بأنه مراقب وهو يقوم بأعماله العادية, يفقد الإنسان عفويته كالطفل الذي يلعب في ظل مراقبة الكبار. هذه العفوية التي كرهها بودلير بقدر ما ندم على حرمانه منها. هو لا يملكها مطلقاً فكل شيء عنده مزيّف لأنه مراقب فأتفه نزوة وأقل رغبة تولد مراقبة وحلولة الرموز).
كثيرا ما يجلد نفسه هذا المضمخ بألم الهجران مؤنبا اياها باحثا من خلالها عن كسرة ما من ذاته تزرعه في حجر والدته و دفئها من جديد ، بل و يصورها و هي تندب حظها ليلة حملها به:
عندما يظهر الشاعر في هذا العالم الملول
بقرار من القوى العلوية
تلوّح أمه المذعورة بقبضتيها المتشنجتين
في وجه الله الراثي لحالها هائجة
وتقول: ليتني وضعت وكراً من الأفاعي
بدلاً من أن أرضع هذا الطفل التافه
ملعونة هي ليلة المتعة الزائلة التي حملته فيها
ليكن هذا الحمل كفارةً عن كل ما ارتكبته من آثام
ثم يعود واصفا اياها بقسوة بأبيات تضاجع صراخها زانية وهو يرى اليها منكوبة به لا سعيدة:
بما أنك يا رب اخترتني من بين النساء جميعاً
لأكون موضع قرفٍ لزوجي البائس.
إنني لا أستطيع أن ألقي بهذا المسخ المخيف
كما تلقى رسالة الحب في اللهب
سأقصف عمر هذه الشجرة
لكي لا تنمو براعمها الوبيلة.
وهكذا تجرَّعَتِ المرأة زَبَدَ حقدها
وهي تجهل أن القدر المحتوم
جعلها تعدّ بنفسها, في قصر الجحيم,
المحرقة المهيأة لجرائم الأمومة
هذا الصراع المضني لا ينحيه عن المرأة العشيقة بل يجعله لصيقا بها كخمرة لا يصحو منها و لا يود ان يفعل ،و هنا ايضا تتسلل امه عبر مسامات جلد الحسناء المثيرة ليصب عليها لعنته شعرا:
أيها الناس الفانون
أنا جميلة جمال حلم من حَجَر
ونهداي اللذان لم يسلم أحد من عذابهما
خلقا ِليُلهما الشاعر حباً خالداً وصمتاً
كصمت المادة الخرساء
إني أجلس على عرش السماء
كأبي هَوْل غامض
وأجمع إلى بياض الإوزة قلباً من جليد
أكره الحركة التي تغيّر مواضع الخطوط
ولا أعرف مطلقاً الضحك ولا البكاء
والشعراء أمام عظمة مواقفي
التي يبدو أني استعرتها من كبرياء أعظم الصروح
ينفقون الايام في دراسات جادة.
ان الرجل هنا قد سقط في جب طفولة تمنعه من رؤية اي شيء اخر سوى ثدي ام قد أفل دون عودة ، و ربما لهذا السبب كانت المرأة في معظم نتاج الفحول و ابداعهم الفني و الادبي ضبابية الشكل و المضمون ، فهي في صباهم مقود نموهم باستقامة نحو السماء ، و تربة تخصيب جذورهم حتى تطيب الثمار ، ان وردها عذب الماء ،لتصبح في وهج فتوتهم موضع استلاب ذكورة مفزعة ، وهم ينقادون اليها كمصدر اثارة لا كندٍّ لهم انسانيا ، و اي اخلال بهذه المعادلة الذكورية يصنع من المرأة هيماء غامضة لا حدود لها مع فقدان الدلائل نحو واحة تطفيء الظمأ المستعر:
عندما كانت الطبيعة في ذروة إخصابها
تتمخض كل يوم عن أطفال عمالقة
كنت أحب أنّ أعيش بالقرب من عملاقة شابة
كما تعيش قطة شهوانية عند قدميْ ملكة
كنت أحب أن أرى جسمها يتفتّح مع تفتّح روحها
وينمو طليقاً بالغاً أقصى مداه
فأكشف من خلال الضباب السابح في عينيها
عن الشعلة الكئيبة التي يخفيها قلبها
وأطوف متمهلاً فوق أعضاء جسدها الرائع
وأسلق مُنحدرَيْ ركبتيها العظيمتين
وفي الصيف عندما تسكب الشمس أشعتها المؤذية
وتحملها على التمدّد في جوف الريف مُتعَبة
أحب أن أنام مسترخياً في ظلال نهديها
كما تستريح الخيمة تحت أقدام الجبل
ليس هذا كل ما ينطوي عليه وجود المرأة ، الا انه اقصى ما يمكن لعيني رجل ان تراه و المخيف في هذا التجسيد القاصر لكيانها مصدره ، و ليس نظرته المشوهة ، فصورتها عبر الشعراء و الفنانين تنتقل من عصر لآخر راسمة اجزاء مبتورة لن تكون المرأة ابدا و ان حاولنا جمع شتاتها.
و لأنها المخلوق الصامت لم يعد من يشهد الى جانبها مستوعبا امتدادها ارضيا حتى توجهها صوب السماء بفروعها المغرية الثمار.
سواء هبطت من أعالي السماء
أم خرجت من أغوار الأرض أيتها الحسناء
إن نظرتك الجهنمية الإلهية
تسكب بغموض, الإحسان والجريمة
وإنك لتشبهين في ذلك, الخمر.
في عينيك الفجر والغروب
تسكبين العطر كمساء عاصف
قبلاتك رحيق وفمك قارورة طيب
تجعل البطل جباناً والطفل شجاعاً
وسواء خرجت من ظلام الهاوية أم هبطت من الكواكب
فإن القدر المفتون يقتفي كالكلب أثر تنانيرك
إنك تزرعين بغير قصد الفرح والكوارث
تحكمين الكل ولا تُسألين عن شيء
تدوسين الجثث وتهزئين بها
فالرعب ليس أقل حُليّك فتنة
والاغتيال من جواهرك الأثيرة لديك
وهو يرقص بافتتان على جسدك المتكبّر
والفاني المبهور يطير إليك أيها الصباح
فازفرْ وتوهّجْ وقل: لنبارك هذه الشعلة
فالعاشق الهيمان ينحني فوق حسنائه
كمحتضر يداعب قبره
سيان عندي من السماء هبطت
أم من جهنم صعدت
يا وحشاً هائلاً مخيفاً بريئاً
لو أن عينيك وابتسامتك وقدميك
لو أنها كلها تفتح لي أبواب اللانهاية
التي أحبها ولم أعرفها مطلقاً
سيان عندي أجئت من شيطان أم جئت من إله
أيها الملاك ـ أيتها المرأة الفاتنة
أيتها الجنية المخملية العينين
أيها الإيقاع ـ والعطر والبريق
يا مليكتي الوحيدة ليت يديك
تجعلان العالم أقل بشاعة
والثواني أقل ثقلاً
اغلب الباحثين و المؤرخين و حتى الناس العاديين يعدون المرأة مصدر الهام الرجل ابداعا و هي ليست سوى ضحية تشويه مستمر تتناوب عليها رياش الرسامين و اقلام الشعراء و الادباء ليجسدوا صورتها داخلهم فنيا و ادبيا و تاريخيا وفق ما شهدوه منها في طور نموهم ثم وفق ما سمح لهم العرف الاجتماعي و ثقافة شعوبهم باكتشافه.
ربما اصبحتم ايها المبدعون من الرجال ابعد ما يمكن عن بوابات المرأة و اقرب ما يكون الى مرآتكم الذاتية العاكسة لسبل انشغالكم بها و عمق هذه السبل و مدى موضوعيتها ، ستظل المرأة سرا لا يعرفه سواها و لا يذرف دمعه لاحاطتها باسوار الوحدة سوى امرأة شبيهة بها رفيقة لها في زنزانة الجهل و التجاهل و ان جاهد الرجال لبلوغ نهايات متاهاتها.
المصادر
اﻟﺷﺎﻋر اﻟﻔرﻧﺳﻲ ﺷﺎرل ﺑودﻟﯾر/ ﻋﻠﻰ ﻋﺑد اﻟﻔﺗﺎح
بودلير ناقدا فنيا / د.زينات بيطار
ديوان ازهار الشر لبودلير
ترجمة حنا الطيار/ جورجيت الطيار
مع مقدمة لجان بول سارتر