د.ماجدة غضبان المشلب |
ما بعد المحيط الأطلسي
في حرب بينه و بين ماض سحيق
كي يتنحى عن عرشه ، و يدع له الحاضر خاويا من كل بريق الماس ، فقد بصره و قدرته
على السمع إلا انه واصل الذهاب كل يوم لتلاميذه بدشداشة بيضاء عليها بقع مضيئة من
طين الغراف الشهير عند فناني الخزف و الفخار..
استغرق التماهي مع محيطه
الصامت و الوجوه التي لا يراها او يسمع أصوات أصحابها ثلاثة و ثلاثين عاما.. أمسك
بتلاليب العدم كي يمضي نحو اليوم القادم.. بساق عرجاء.. ثم أدرك ان عليه أن يستخدم
كرسي المقعدين..
أنامله الرقيقة تتحسس الحروف.. تضرب
على الحاسوب بمهارة بلغة الراب الأمريكية ، و بلهجة الغراف العسيرة الفهم بإستثناء
قاطنيها..
تلك التي برقت في ظلمائه ، كغيرها
من الناس لا وجه و لا صوت لها.. لهجتها فحسب هي من أغرته
ببدء حوار طويل عبر أشباح شبكة العنكبوت و خدماتهم الشيطانية الرائعة..
قهقه بصوت عال مع كل كلمة
قالتها.. و إن لم تطرق سمعه او تنعكس على قزحية عينيه.. إنما شمَّ أريجها.. و لمس
بيديه نعومتها السندسية..
و بفرشاة مسهدة رسم وجهها
الغرافي السحنة.. و عنقها السومري الشامخ.. و استدارة نهديها اللذيذة.. و انفق جهدا
كبيرا في صناعة منحنياتها الأنثوية.. و جبلي ردفيها.. و وديان بطنها.. و بلور فخذيها
و ساقيها..
لأجل وجهها المستدير و عينيها
الواسعتين.. و عريها العصي على القطاف.. أفتتح معرضا للوحات غرافية في عهده الأخير
قبل غيبوبة لا نهاية لها..
لم يحضر أحد..
شعر بزحام المتفرجين و هو
يصطدم باشباحهم هنا و هناك.. و تلمس صدى التصفيق ، و انوار كاميرات التصوير الوامضة بخياله
المحلق نحوها..
عقب انتهاء كل ما يتعلق
بالإحتفاء بها انتابته غيبوبة الألفية الثالثة.. قد شهد منها اثني عشر عاما فحسب..
ما بعد الغراف
حين أدركت وجوده ببصيرتها استعادت
بصرها الذي أذهبته غازات حلبجة.. نمت ساقاها كجذعي نخلتين مهيبتين بعد أن بترتا في
مفخخة بغداد.. و سَمْعها الذي رحل مع مويجات الغراف و هي تنتزع من على ضفافه عنوة ، حط
على صيواني أذنيها كما تحط الطيور المهاجرة على وجه الاهوار الصقيل..
أحمرت السماء بحياء إكتشافها
لغرامها السري..فرش الربيع أمامها بساطه الأخضر و زينه بزهور نيسان و و أكرمه بندى
آذار النقي..
صوته أتى هادئا دوما عبر نور
القمر..و عيناه أطلتا من كل نافذة بأجنحة بيضاء..
(مثل روجات المشرح
ترف..ضحكاتك و أحلى ..و ألذ من الهوى العذري و أعز من العمر و أغلى)..
تلك اغنيتها الفضلى..و شط
البدعة أجمل ذكرى حدثها عنها..
بدأ يعرف ملامحها جيدا و
يرسمها مرارا دون توقف..تمنت عليه ان يرسل عبر الأشباح لوحة ما..
_إنتظري المعرض..و حشد
الزوار..و أنوار آلات التصوير و هي تومض كشهب في ليلة عمياء..
بدا الإنتظار كسكة قطار لا
تنتهي تسايره افعوانية تمضي بها وحيدة و بجنون..
(راح العمر و انكضه ريشة على
جاري الماي..ياخذها مد و جزر ما بين رايح جاي..لا وجه ليلة بطيف..و لا ضاك فرحة
كيف..و البيه بيه)
عشرات الأيام للدموع..و يوم
لقبلة تطبعها على خد الشفق علها تبلغ عينيه فيراها..
شتلت دموعها حزنا و بهجة عند شاشة الحاسوب..
علقت لوحاته بين أرض و سماء.. أبصرت
وقت الغروب ساقيها المبتورين في لوحة.. صقيلين كلوح ذهب على زبد الأطلسي.. فخذيها
البلوريين ذبيحين في لوحة من دم ، يحملها الغراف كجثمان شهيد لم يعثر عليه أهله
بعد.. نهديها كتفاحتين دون شجرة دون ربيع.. بطنها لا يتوسده سوى الظلام و
الوحدة.. وجهها طائرا في قفر سماء عارية عن غيومها..
_أتفعل بي فعل مفخخة يا هذا؟
ماذا صنعت بي؟
لملمت اشلائي لأحتضن السفائن
و أرحل صوبك..
الآن كيف لي أن اجمعها في جسد
واحد..؟؟
_قل لي..كيف لي؟؟
_من تنادين أيتها
المرأة؟؟..لا أحد في الجوار سواي ، و أنا لم أرك من قبل..
إالتفتتْ نحوه
_حقا من أنت ايها الشيخ
البصير المقعد؟؟
مضى الشيخ بكرسيه.. كأنه لم
يصغ اليها.. أو لم يسمع شيئا..
majidah64@gmail.com