دمية ميعاد




د.ماجدة غضبان المشلب





من قرأ رواية البؤساء لمترجمها الرائع منير البعلبكي الذي أعاد كتابتها بشكل ساحر، يستطيع أن يتذكر كيف وقفت كوزيت إبنة فانتين أمام الدمية التي لم تر لها مثيلا في حياتها البائسة، مذهولة قبالة المحل الكائن في طريقها الى البئر حيث تأتي بالماء للسيدة تيناردييه، وهكذا وقفت بأعوامي السبعة أمام دمية ميعاد!

كانت الدمية بحجمي تقريبا، بشعر أشقر، مخصل، لامع كأنه البرق في يوم كئيب غائم، عيناها زرقاوان كقطعة من السماء، ليس هذا فحسب.. بل وترمشان، وتغفوان إذا وضعتها ميعاد على حجرها.

لم أسأل نفسي، أو اي أحد من اشقائي وشقيقاتي، أو والديّ، لم لدى ميعاد هذه الدمية ،وليس لدي مثيلها؟، رغم اننا لم نكن فقراء جدا؟.. كان هكذاسؤال كمنطقة محرمة لا يحق لنا محاذاتها في عرف أبي.

كنت الاولى على صفي في ترتيب التفوق الدراسي، لكن بطاقة علاماتي الشهرية التي أحملها الى أهلي دونما حماس، لم تفلح يوما في إقناع أبي بشراء لعبة(ام الخمسة وعشرين فلس)، ذات الحذاء الملون بكعبه العالي، وثوبها الزاهي الالوان، وما تخفي تحت ملابسها من ملابس داخلية أنثوية لم أرها يوما لدى والدتي.

لماذا لم أنتفض؟، لم ابك؟.. لم لم أصرح بالعذاب الذي يعتمل داخلي ليل نهار بشأن دمية ميعاد؟، تلك الفتاة الكسول السيئة الخلق التي لم تسع يوما نحو إجتياز الامتحان النهائي في الصف الثاني الإبتدائي، مع عدم تحمس والدتها لفكرةإكمالها لدراستها ،فهي اولا واخيرا ستتزوج ابن عمها الطالب في الثانوية ذلك الحين.

لابد ان لذلك علاقة بالنظرة المخيفة التي يدخل بها أبي علينا عند عودته من العمل، وله علاقة أكيدة بكمية اللحم التي تضعها أمي في صحنه لتبقي صحنها وصحننا فارغا!..

كانت ساعات العصر طويلة و مملة، أقضيها في الجلوس على سلم السطح العالي لبيتنا، أتابع أسراب الحمام بعيني، وفي داخلي أعيش حلما مستديما لاينتهي مع دمية ميعاد، مرة أحملها، ومرة أخيط ثيابها، ومرة استعمل مساحيق التجميل لتصبح العروس الاجمل، لا أعلم كم أنفقت من عمر طفولتي وأنا أحلم بدمية لم ولن احصل عليها ابدا، وإن خلق جان فالجان ثاني فما كان لأبي أن يسمح له بأقتناء دمية مثل هذه لكوزيت التي تعيش تحت جلدي، فقط لأن المتعة والسعادة المحض لم تكن موجودة في قاموس أبي، و إن كان الحصول عليها لايتطلب إنفاق المال، فقد منعنامن حضور حفلات الزفاف، وحفلات المدرسة، وحتى السفرات المجانية التي تنظمها إدارة المدرسة.

شيء ما حصل في نظام الكون، ربما الشحنات الكهربائية التي انطلقت من دماغي، وأنا أفكر في الدمية ليل نهار، هي من تسببت بتوهج الشرارةالتي غيرت من سير الأحداث لصالح حلمي المستحيل.

مرضت والدة ميعاد، بالطبع لم يكن ذلك بسبب دعائي، ولكنها كانت إمرأة شرهة، ومصابة بعدة أمراض لا تتفق ونظامها المتوحش في تناول الأطعمة، مما جعل صحتها تتدهور، وتضطر الى المكوث في بيت ابنتها الكبرى لحين تعافيها، هكذا أخبرتني ميعاد وهي تحمل دميتها بين يديها، لتقول وهي تجهش بالبكاء:ـ

_ماعندي احد اضم عنده لعبتي نوسه غيرك،اذا اخذتها معي راح يكسرها ابن اختي انت ما تعرفيه مثل الوحش،واذا تركتها بالبيت راح تخاف وحدها ويمكن يجي الحرامي يسرقها.

أحلم هذا أم خيال؟، دمية ميعاد المدعوة بنوسة بين أحضاني؟،اين اخبيء فرحتي عن عيون أهلي كي لا يعلموا اني سعيدة جدا وخاصة أبي؟،أين اخفيها، وهي بحجمي؟

سرعان ما وجدت الحل قبل أن يشم أحدهم خبري، ويعرف سر الدمية الذي حرصنا انا وميعاد على اخفائه.

تحت السلم في السطح العالي كان هنالك حيز لابأس به لإخفاء سعادتي اللا متناهية.. هناك مارست طقوس الجذل الممنوعة، وعشقت نوسه كما لم يعشق المجنون ليلى، هناك جمعت علب مسحوق الغسيل(تايت) الفارغة ،ووضعت أحدها الى جانب الاخر بهيئة سرير لا يمكن ان يكون كافيا لتنام عليه حبيبتي نوسه بأي حال من الأحوال، سوى انه سيكون أفضل من لا شي، كماسرقت بعض خرق المطبخ لأغطيها،وانشغلت دهرا عن الدنيا أقلبها، أحدثها، أحممها دون ماء.. أفعل كل ما يخطر ببال كوزيت فيكتور هوغو.

أين كنتِ؟، فوق السطح أقرأ دروسي..أين تذهبين؟ الى السطح لأكمل واجباتي المدرسية!

في الليل حين ينام الجميع أتسلل الى الغرفة العليا حيث ركام من الاشياء المهملة،أخرج دميتي، أضمها بقوة الى صدري، وأنسل بهدوء معها الى فراشي.. هل كنت أنام حقا؟

قال أبي يوما: ان هذه الفتاة تزداد نحولا، ما بها؟، هل هي مريضة؟..

تمنيت ان اقول له: انني على العكس بأحسن حال، واسعد كائن على وجه الارض، ربما أكثر سعادة حتى من ميعاد التي جاءت بعد حين لاسترداد دميتها، ظل آذان الفجر حليفي طوال فترة صحبتي لنوسة، يوقظني من نومي لأعود مسرعة بها الى الغرفة في الأعلى، لأتقلب على فراشي يأكلني القلق عليها، وهي في الظلام وحيدة.

لا أدري أين أانت الآن يا ميعاد، وهل مضت بك الحياة هادئة ناعمة كما طفولتك؟، هل مزق الزمن جلد نوسة،ام شظايا الحروب؟، لكني اود أن أقول لك شكرا على أيام النعيم التي منحتني إياها بصحبة نوسة، شكرا يا جان فالجان طفولتي، وإن كانت حياتي لا تشبه بكل ما حدث فيما بعد حياة كوزيت بين أحضان ماريوس بطل المتاريس.




Unknown

About Unknown

كاتبة عراقية ملحدة الحمد للعقل على نعمة الالحاد. تولد عام 1964. حاصلة على البكلوريوس في الطب و الجراحة البيطرية. صدرت لي عدة مجاميع شعرية. تنوع نتاجي الأدبي بين الشعر و القصة القصيرة و النص المفتوح و المقالة. لازال هناك المزيد من المخطوطات الشعرية والقصصية تتكدس بين برزخ الحلم و حقيقة التجسد...... لدي مشاريع روائية تنتظر لحظة قطافها.،

Subscribe to this Blog via Email :