نصف الوجه الآخر



 
إعترت جسدي رعشة خفية حين لمحته جالسا على مقعدٍ خلفيٍّ عند النافذة عكس اتجاه سير الحافلة، وقد بان قفاه الأشيب. دون أدنى تردد وجدت نفسي أشغل المقعد الشاغر جواره وقد اصطبغت وجنتاي بحمرة الإنفعال، وتعثرت تحية الصباح على شفتيّ الشاحبتين. ظننت للحظة أنه سيشعر بوجودي دون أن يراني، كما كان يفعل في زمن مضى. سيحصي أنفاسي اللاهثة المغتبطة، ويلتفت إليّ باسماً. غير أن ظني لم يكن صحيحا بالمرة. تملمت في جلستي وارتبكت أصابع كفّيَّ وهي تعانق بعضها. تعمدت افتعال حركات محدثة صوتا بكعب حذائي في محاولة مني لجذب انتباهه، دون جدوى. أحسست بصوتي يتحشرج فجأة في حنجرتي وسعلت كثيرا، إلا إنه لم يبد حراكاً وكأنه يتعمد تجاهلي مسمرا بصره على زجاج نافذة السيارة يرقب حركات الأشياء وهي تختفي الى الخلف. مرت عشر دقائق وأنا أرتعد. أنظر الى نصف وجهه القريب إلي وقد علاه الشحوب واكتسحته التجاعيد كما اكتسح الشيب شعره الأسود المسترسل. سنون طويلة لا أعرف لها عددا تلك التي باعدت بيننا، رغم أنها لم تفلح في إدخال اليأس الى قلبي ولم تغير عادتي في انتظاره وأنا أقول مؤمّلة نفسي: سيعود كما اختفى يوما دون موعد سابق.
عند أحد الشوارع الكبيرة توقفت الحافلة ببطء وإذا به يقفز مسرعا كمن لدغته أفعى، مغادرا بخطوات كبيرة هاربة. وتحت أشعة شمس الصباح الساطعة، وهو يسير بعجلة في الشارع، استطعت أن أتبين النصف الآخر من وجهه وقد بدا لي الآن بوضوح أنه قد حرص على إخفائه طيلة جلوسي قربه. كانت هنالك حفرة سوداء أشبه بحفرة نمل كبيرة بدلاً من عينه اليسرى، وجزء من أنفه لم يعد موجودا، وقد اختفت شفته السفلى كاشفة عن حطام أسنانه المرعب. وكأنه قد شعر بنظراتي تلسعه بدهشتها من خلال زجاج النافذة التي كان يجلس لصيقا بها، رفع عينه الوحيدة نحوي، وأطرق باستحياء.   
 
 
 


Unknown

About Unknown

كاتبة عراقية ملحدة الحمد للعقل على نعمة الالحاد. تولد عام 1964. حاصلة على البكلوريوس في الطب و الجراحة البيطرية. صدرت لي عدة مجاميع شعرية. تنوع نتاجي الأدبي بين الشعر و القصة القصيرة و النص المفتوح و المقالة. لازال هناك المزيد من المخطوطات الشعرية والقصصية تتكدس بين برزخ الحلم و حقيقة التجسد...... لدي مشاريع روائية تنتظر لحظة قطافها.،

Subscribe to this Blog via Email :