بعد خمسين عاما.....

كان يا ما كان، في هذا العصر و الأوان، كان هنالك امرأة اسمها ماجدة قد بلغت الخمسين من عمرها بين ليلة رمشة عين و ضحاها، كل ما جرى في حياتها لم يكن مدرجا ضمن خياراتها، التيار جرفها دوما و بقوة نحو ما لم تشأ له الأحلام ان يرتسم تحت ظلالها.....لكنها لسبب ما تجهله فعلت أفضل ما يمكن ان تفعله امرأة لتظل وارفة العطاء لمن حولها.....

و هي على أعتاب عامها الخمسين اكتشفت انها ببساطة قد تحولت الى مجرد طفلة، تملك من جرأة الاطفال ما يملكون، تقول للأعور انت أعور، و ان عينيك الزرقاوين التي يتحدث الناس عنها مجرد أكذوبة، و للقصير انت قصير، لا يمكنك ان تكون أطول من عشبة مجزوزة في حديقة منزل، و للطويل انت طويل، لكنك لم تستخدم طولك لقطف النجوم، بل لتناول أوراق الأشجار كزرافة، تأتي على الأخضر، و تحيله الى أغصان جرداء....

لمن يرتدون السواد حزنا على شيء ما، تقول ان من مات كان لابد أن يموت، و الحزن على انسان أكثر مما يجب هو خطيئة بحق حياة من بقوا على قيد الحياة، و ان هذا نفاقا و دجلا، و موجا عارما يمكن ان ينطبق عليه المثل:

على حس الطبل خفن يا رجليه...

او

حشر مع الناس عيد...

لمن يظنون انهم آمنوا بعقيدة ما تقول:

 في كل مكان في العالم يعتنق الناس ما يرونه مناسبا لموروثهم الثقافي، و أمثال هؤلاء لم يأتوا باختراع ما، أو اكتشاف مذهل، هم فقط اضطروا غريزيا للعودة الى ماضيهم، كي يجلسوا في حماية الاكسسوارات العتيقة خوفا من جديد المستقبل المهول الذي لا يستطيعون استيعابه مع ماضيهم الرث المهلهل.....

للمصفقين لكل من اعتلاهم، و هشم امالهم تقول:

هذا ما جبل عليه الانسان، عادة ما يختار الفكر المنسوج بهيئة سطح بحيرة لا يحركها هواء، و لا يغيرها زمن، لأنها ببساطة تقع خارج الطقس الطبيعي للكرة الأرضية و زمنها، لا يعتريها برد شتاء، و لا هجيرة صيف، لا تداعبها النسمات، و لا تعصف بين حناياها ريح...

هذه البحيرة هي المكان المفضل للجميع، فهم يخشون ركوب البحر، و يهابون جبال امواجه، مثلما يرعبهم التوغل تحته، و اكتشاف عالم آخر لا يمكنه التواجد تحت ماء بحيرة آسنة...

لقد عرفت ماجدة ان اللون الأسود ليس بأسود، انما ما يقع عليه الضوء يمتص روحه المفعمة بحركة الجزئيات المفعمة بالطاقة، و يحيل شعاع الشمس الى عتمة....

و ان الأبيض ليس بأبيض، انما هو غبي يرفض كل عطايا النور، معيدا اياها من حيث قدمت حتى يحمل صفات فجر ليس فيه حقا....

حين تصبح بعد الخمسين مجرد طفل، ينطق بالحقائق دونما تزويق أو وجل من غضب الآخرين مهمة ليست بأسهل من انحدار سيزيف و صخرته.......

انها كالعودة بالمخاض الى النطفة غير المرئية التي كونته.....

عودة الى الأصول لا الفروع......

انها عودة...... لكن ليس نحو ما مضى، بل نحو كل قادم من رحم ألم التجذر على جوهر المنابت الأولى للكون......

عودة متوجة بأشواك اكليل روماني، هو محض خناجر يزرع جراحه على كينونة امرأة تقيم بين ذراعيها كل سذاجة أهل الريف، و فطرة الجنوب السومرية المنبع...

كيف لها ان تصف العودة الى ملاعب الصبا، و في عينيها يهدر بحر من دموع فوق محارمها حقائق تصرخ للمشيب أن أرحل، فقد تجاوزت خطوط الاستحالة؟....

كيف للجسد الهرم ان يطيق ذهول الطفولة امام اكتشاف الحبو نحو نار تضطرم في المواقد؟...

كيف للشعر الأبيض ان يتحول الى زغب الأرحام الناعم من جديد؟...

كيف لعينيها ان تخترقا المحظورات بعد جبال الترسب في روح أعياها طَمْي الانهار؟..

كيف للناس ان يحتملوا وهج الشمس البكر المنسدل من بؤبؤين شديدي الوقاحة؟...

انها رحلة جديدة لم تعد لها العدة، حملتها كقشة من أرض الاذعان نحو غضب طوفان نوح....

هل من سبيل غير هذا؟

حين تبلغ الخمسين تنحسر الخيارات، و يغدو مفترق الطرق أشبه بالوسن الذي يداعب بلذته أجفان موتى لم يعد من اللذائذ ما يعنيهم...

انه الطريق الوحيد الذي يسمونه في الأساطير الشعبية:

درب الصد ما رد....

و انا أغذ السير فيه الآن دون ان تعنيني النهاية.......