ظهر مصطلح التنمية البشرية
بعد الحرب العالمية الثانية رد فعل غير منظم إزاء انكسار القيم الإنسانية بعد مواجهتها
لفظائع الحرب، ثم تحول إلى علم متشعب الفروع معني باستخدام طاقات الفرد على أحسن وجه؛
لزيادة دخله وصولاً به إلى الرفاهية، وقد اعتمدته المؤسسات الحكومية بداية منهجاً لإصلاح
البنية التحتية المدمرة جاعلة من دراسة الفرد وحدة أساسية في بلوغ الأهداف.
تُبُني هذا العلم أخيراً
لتوجيه حصيلة النتاج الفكري التنموي نحو ترميم الذات لمواجهة الضغوط المادية والنفسية
الناتجة من التفاوت الطبقي والاجتماعي في المجتمعات الغربية، مشكلاً بذلك صمام أمان
سياسي يتحلى بقابليته على امتصاص سخط الفرد تجاه منظومة القيم الاقتصادية والفكرية
والاجتماعية وتمحورها حول التعامل مع الإنسان بصفته قيمة إنتاجية تتعلق بمدى قدرته
على العطاء مع تجاوب غير عادل من السلطة.
ويعد استخدام التنمية
البشرية ضمن مفهومه السياسي سلسلة طويلة من عمليات التجميل النفسي؛ لسد الهوة الفاصلة
بين الإنسانية بحضورها الفاعل في الحياة، وبين تغييبها كمعادلات حسابية مجردة لبلوغ
أقصى المردودات المادية، مع شمولها بتعامل آلي، بدءاً من القابليات الجسدية والذهنية،
وانتهاء بثمار العملية الإنتاجية.
وفق هذا المفهوم أُقحِم
علم التنمية البشرية ضمن مجموعة من العلوم المتخصصة بتغيير مسار مجرى الوعي الجمعي
صوب متاهة الذات، وإغراقها بإيمان مطلق يختصر سلبية النظام العالمي في الزاوية التي
تشكل منظورها الخاص، فلا الظلم موجود، ولا الحزن، ولا الكوارث، ولا استغلال الإنسان
لأخيه الإنسان، ومن ثم ليس هناك من داعٍ للبحث عن مخرج إنساني لهيمنة العولمة توجه
طاقات الإنسان باتجاه ثورة شاملة تكتسح ما اهترأ، وتعيد نصاب الحضارة لخدمة البشرية.
ولأن القفزات الفكرية
العربية هي ردود أفعال لنتاج الفكر الغربي، انتقل هذا العلم بصورته الأخيرة محطة تسريب
للوعي الجمعي، وصرفه صوب معالجة الإعاقة النفسية من دون درس الأسباب الاقتصادية والاجتماعية
التي تمخضت عنها هذه الإعاقة على أيدي مجموعة من المروجين له بأسوأ صورة.
إن علم التنمية البشرية
لا يمكن أن يكون ذا جدوى من دون تنمية اقتصادية حقيقية، ودراسة ميدانية لحجم الإمكانات
المادية الملموسة مقارنة بقدرات الفرد على السير بمحاذاتها، ولا يمكن لهذا العلم أن
يكون مؤثراً من دون إصلاح لمفاهيم تجذرت في الموروث الثقافي والديني.
إن عدم توافر عناصر الثورة
الفكرية على سلبية الوعي الجمعي العربي إزاء وجوده الكوني، وإقامة دعامات وهمية مبنية
على محاضرات تتجاهل مؤشرات الفصام الحضاري بيننا وبين العالم، وتهميش جذور مشكلات الفرد
عوضاً عن تحليلها بيانياً، ودراستها اقتصادياً واجتماعياً، ما هو إلا استغفال وتضليل
لهذا الوعي، ووضع طبقات من مساحيق التجميل لن تتمخض بأي حال من الأحوال عن وجه جميل
لواقع مزْرٍ. تحفل الكتب المنتمية عنوةً إلى ما يسمى بعلم التنمية البشرية بالنصائح
المزوقة التي تخلق أنواعاً من العجز النفسي والإحباط عند فشل تطبيقها من الفرد العربي،
فهي لا تحفل بالمشاهد الدموية التي يصادفها المرء في الشارع، ولا بمشاهد المجاعات المؤلمة،
ولا يهمها التأثير الهائل للسلطة المعلوماتية والإخبارية التي تشكل متاريسها داخل وعي
الإنسان، وتحيله إلى ما يشبه الريشة وسط ريح هوجاء.
هي بذلك تتحول إلى أداة
تغييب فكري، تنتهج لغة التنويم المغناطيسي، ونشر مفاهيم ميتافيزيقية تقترب من السحر
والشعوذة تتعمد تجاهل آلام ومعاناة الملايين، وحصر سلبية المجتمع في طريقة تناول الإنسان
للحقائق، ورؤيته لها.
ما الذي يمكن أن نتوقعه
حين نوهم الفرد بأن العالم المزدحم بالمعاناة لا يقيم خارج عقله؟
هل يمكننا أن نصدق أن
إنجازات الحضارة حققها مجرد تفاؤل الإنسان الغربي، لنحتذي بهذا التفاؤل ونتوسده، وننام
عليه نومة اللحد؟
التنمية البشرية العربية
اليوم بشقها النظري تكرس مفاهيم الاتكال على ما سيحمله المستقبل من أمل قادم لا تستحدثه
إيجابية الفرد، أو إماطته للأذى وهو يمتطي يومه قاصداً غده المشرق، مستحثة الموروث
الثقافي والديني بمادته الخام من دون تثريب عليها؛ لتكون مصدر تخدير وخلط للأوراق،
وهذا لن يجعلها أبداً محل ثقة الملايين، فالإرشادات والنصائح لا تغني الجائع عن خبزه،
ولا تنسيه حجم الظلم الذي يسلط عليه من العالم المتفوق حضارياً.
نشرت في صحيفة الحياة على هذا الرابط:
http://www.alhayat.com/Opinion/Letters/4428279/%D8%AA%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%B6%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%8B